الأربعاء، 9 فبراير 2011

حبُّ الوطن من الإيمان


حب الأوطان والتعلق بها غريزة جبل عليها الإنسان في كل مكان على وجه المعمورة، ومهما كانت هذه الأوطان فإن أبناءها المنتسبين إليها يعشقونها ويهيمون بها ولا يرضون عنها بديلا، بل إنّهم ليرخصون أنفسهم وأموالهم وكلّ ما يملكونه ويقدمونه فداء لها، ولذلك رسم القرآن الكر يم صورة للتعلق بالأوطان، استوى فيها عند من يحبّ وطنه ويتعلق به بين أن يقتل نفسه وبين أن يخرج من وطنه فقال: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم).
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل من حب الأوطان جزءا من أجزاء الإيمان حين قال: " حبّ الوطن من الإيمان "
   وقد حفلت قصائد الشعراء الجاهليين ومن سار على منهجهم بالوقوف عند الديار والبكاء على أطلالها حتى صار ذلك تقليدا تنبني عليه القصيدة ومنهجا ينبغي على الشاعر سلوكه في مستهل قصيدته، ويرى كثير من النقاد أن الشاعر الجاهلي امرؤ القيس هو أول من سنّ هذه السنة، فهو الذي وقف واستوقف الصحب عند الديار وبكى واستبكى:ٌ
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنــزل
*
بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْمـــلِ
فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمهـــاَ
*
لما نسجتْها من جَنُوب وشمـــــــلِ
وها هو يعبر عن الحالة التي أوصله إليه البين والبعد عن الأوطان ومن سكن تلك الأوطان فيقول:

كأني غَداة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَلّــــــــوا
*
لدى سَمُراتِ الحَيّ ناقِفُ حنظــــلِ
وُقوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهُــــــمْ
*
يقُولون لا تهلكْ أسى ً وتجمـــــــّل
وإنَّ شفائي عبرة ٌ مهراقــــــــــــة
*
فهلْ عند رَسمٍ دارِسٍ من مُعــــوَّلِ

 وقد فسر الناس عاطفة حب الأوطان وعشق البلدان، فاعتبرها البعض علامة الرشد، وأمارة البر، ورقة القلب، وسمة الرحمة ورمز الكرم، وصاغوا ذلك حكما تناقلتها الأجيال، وحفل تاريخ الأمم بشواهد تدل على حب الناس لبلدانهم وتعلقهم بها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يحن إلى موطنه و الأرض التي تربى عليها والناس الذين عاش معهم، ويغادرها مرغما حزينا متألما ويلتفت إليها مخاطبا لها بأنها أحبّ بلاد الله له، ولولا أن قومها أخرجوه منها لما خرج...
أما الشعراء فهم ينابيع يترقرق ماؤها ثم يتسرب إلى القلوب فيملؤها سعادة وهناء لقد صوروا بشعرهم عمق تلك العاطفة وتجذرها في نفوسهم، فها هو ذا أحدهم يصف حبه وشوقه لبلده ولأهله مفضلاً ذلك على عظيم النعم ووافر الخير قائلاً:
ألا يا حبذا وطني وأهلــــــــــــــي
*
وصحب يحين يدخر الصحـــــاب
وما عسل ببارد ماء مـــــــــــــزن
*
على ظمأ لصاحبه يشــــــــــــــاب
بأشهى من لقائكم إلينــــــــــــــــــا
*
فكيف لنابه ومتى الإيــــــــــــــاب
 وها هو ذا حماد بن إسحاق الموصلي يصف حبه لبلاده وعشقه لها قائلاً:
أحب بلاد الله ما بين صــــــــــارة
*
إلى غطفان إذ يصوب سحابهــــــا
بلاد بها نيطت علي تمائـــــــــــــم
*
وأول أرض مس جلدي ترابهـــــا
 وهذا الشاعر شعر ضياء الدين الجماس قد ذابت نفسه شوقا وحبا لوطنه فيقول:

وَطَنِي يُجَاذبني الهوى في مُهْجَتِي
*
هُوَ جنتي هو مَرْتَعي هو مَسْرَحي
آوي إليه وملْءُ عـيني غَـفْــــــــوَةٌ
*
هُو من أحَلِّقُ فَـوْقَهُ بِجوانـحـــــــي
ما لا رأت عَيْنٌ ولا سَمِعَتْ بــــــه
*
فيه الحواري والملائكُ تَـسْتَحِــــي
أعـنابُـهُ مِنْ كلِّ داليَـةٍ دَنَـــــــــــت
*
عَسَلٌ يُداوي كلَّ جُرحٍ مُـقْـــــــرِحٍ
أنا مُرْسَلٌ في غُـرْبَةٍ بِمُهِـمّـَــــــــة
*
لا أرتجي إلاَّ الرضا هُو مَطْمَحِـي
في غربتي أحبَـبْتُ فِيـهِ أحِبَّتِــــــي
*
كلٌّ نُسبّحُ والحبيبُ بِمَسْبَحِـــــــــي
تسبيحُهُ يَـعْلو بروحي في السَّمَــــا
*
وذكرهُ مَزَجَ الهوى بِجـوارحـــــي
إني غَـريب لا أبالــي مَنْ أنــــــــا
*
فأناي قَـدْ ذابَتْ بِـهِ في مطرحــــي
يا جَـنَّةَ الفِردَوسِ كوني مَوْطِنـــــاً
*
حقّـاً لكلِّ مُوَحِّـدٍ أو مُفْلـِـــــــــــــحِ

وهذا أمير الشعراء أحمد شوقي يعود إليه الحنين إلى وطنه ويستبدّ به وتنازعه نفسه إلى وطنه فيقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ** نازعتني إليه في الخلد نفسي
وقريب من هذا المعنى نجده عند الشاعر إيليا أبو ماضي الذي كان يعيش في جنة الدنيا أمريكا وهو الذي قد ألجأ الفقر إلى الهجرة ليكون بائع سجائر في أحد شوارع القاهرة، ولكن تلك الجنة لم تكن لتنسيه وطنه لبنان رغم أن عيشه قد ضاق فيه فغادره على مضض وظل لهيب الحنين يتوقد بين جوانحه وينتظر علّ الله يمنّ عليه بصيف يقضيه بين ربوع لبنان أو شتاء فقال:
فقُلْتُ: يا ربُّ فصلَ صَيْفٍ في أرض لبنانَ أو شتــاءْ
فإنّني مهنا غريبٌ وليس في غُربة هنـــــــــــــــــــاء
فاستضحك اللهُ مِن كلامي و قال: هذا هُوَ الغَبــــَـــاء
فقال: ما أنت ذو جنون وإنما أنتَ ذو وفـــــــــــــــاء
فإنَّ لبنانَ ليس طَوْداً ولا بلاداً، لكنْ سمـــــــــــــــاء!

 والحديث عن الموضوع لا شك يثير في نفوسنا الكثير والأحاسيس والمشاعر وأترك للشاعر التغزوتي محمود عياشي القاطن بتجمع بقوزة التعبير عنها فهو الشاعر الذي نشأ في هذه القرية المنعزلة (آنذاك) فلا طريق يربطها بغيرها إلا مسالك شقها الرجال بسواعدهم عبر كثبان الرمال في صراع مرير مع الطبيعة، في قرية كان الظلام يلفها مباشرة مع آخر خيط من خيوط الشمس المودّعة كل يوم إلا من نور خافت ينبعث من شمعة تحترق مضيئة يعتصرها الألم فتغرق في دموعها حتى تنطفئ، أو من نور مصباح (الكانكي) الذي تصيبه الشرقة بين الحين والآخر فلا يعود قادرا على أن يرسل نوره فتغرق الحجرة بالظلام، فيستنجد الأهالي بنور القمر وقد لا يجدونه.. في هذه القرية .. نشأ الشاعر وأحب قريته التي لم توفر له شيئا من متاع الحضارة في تلك الأيام الخوالي.. وانتقل ليتعلم في الثانوية بقمار ومنها إلى قسنطينة طالبا جامعيا وهناك تفجرت ينابيع الشوق... إنها قريته بقوزة التي تداعب خياله ويزوره طيفها كل ليلة.. فيهيم بهواها.. فإذا هو قيس المفتون المعنى بحبّها فيجثم باكيا عند محرابها قائلا:

حبيبتي..تسمعين القلب يقتــــرب
_
فتضعين قلوبا خفقها طـــــــــــــــرب!
وتشفقين..وان الحب مملكــــــــة
_
جيوشها الشوق في أسوارها اللهـــــب
وتعطفين بموت كان أولـــــــــــه
_
صدّ ،. وآخره الإعراض والغضــــب
إني أموت إذن روحا على كبـــد
_
.. لك الحياة وقلب فيك مضطــــــرب
إني عاتب قلبا هانما كمــــــــــدا
_
هيهات ينفع فيه اللوم والعتـــــــــــــب
وكم مكثت حبال الطيف أرسلـــه
_
فيضا من الدمع مرسى عنده الطلــــب
وعشت مرتقيا أرجو مقابلـــــــة
_
ولو على البعد تلقاني فتحتجـــــــــــب
مني (قسنطينة)في سورها حرج
_
وأنت مؤتمن فيها ومغتــــــــــــــــرب
ألوت (بباتنة) الأهوال فانسلخـت
_
عنها المطامح، لا لقيا ولا نســـــــــب
وتلك بسكرة من بعد (قنطــــــــرة)
_
توحي إلينا بان الوعد يقــــــــــــــترب
أواه قد يئست عين وصاحبهـــــــــا
_
ينام ملء عيون فوقها الهــــــــــــــدب
والليل يرسل للعشاق راحتهـــــــــم
_
(بقوزة) الروح قلت: القلب واللقـــــب
هي التي عصفت بالقلب مذ دخلـت
_
عليه في بأسها التطهير والسحــــــب!
والنار صولتها والثلج بسمتهــــــــا
_
ووجهها الشمس والأقمار والشهـــــب
وشعرها الليل والأنهار دمعتهـــا
_
وعينها الخمر في كاساتها الحبـــــــب
فروها الرمل تندى منه راحتهـــا
_
وذلك الشاهق الولهان مرتقـــــــــــب!
والنخل منتصب كالجند محتدمــا
_
عند المغيب، وتلك الشمس تحتجـــــب
مياهها..نابسها دمن أحجارها دمـن
_
معللات لمن تجوله الحـــــــــــــــــــب
فهل يلام فؤاد  من صبابتــــــه ؟
_
أو يسأل العاشق المجنون ما السبــب؟
رحماك يا أملي من أسر غربتنــــا
_
ألم تكوني خيالا كله عجـــــــــــب ؟!؟
إن تقتلني فروحي لست أملكهــــــا
_
أو تطلقيني فأنت القيد..والسبـــــــــب!

هذه الأبيات ملهمة حبّ الوطن، موجهة إليكم أنتم أيها الشباب أينما كنتم وحيثما وجدتم على ربوع هذه البلدة الطيبة التي تفتح لكم ذراعيها وتتهديكم أجمل الباقات، وأحلى القبلات، وتدعوكم لتكونوا إخوة .. تتظللون بسمائها.. وتستمتعون بخيراتها.. وتكون سعادتكم بلمّ الشمل ونشر المحبّة والسعي الحثيث لتطويرها وبنائها..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق